عرض المقال
الطب الشرعى يا بتوع الشرع
2013-03-26 الثلاثاء
عندما قرأت نص استقالة كبير الأطباء الشرعيين د.إحسان كميل جورجى شعرت بالحزن والفخر معاً، الحزن على بلد يدهس فيه القانون بالأحذية، والفخر بأن هذا الصرح العظيم الشامخ صرح الطب الشرعى ما زال ينبض بالكرامة والشرف والأمانة، بأنه ما زال هناك رجال فى مصر لا يغمسون لقمة العيش فى طبق الذل والمهانة ولا يلوثون إنسانيتهم وسلامهم النفسى واحترامهم لذواتهم باللهاث خلف المناصب والأموال، شعرت بالفخر أن أبى رحمه الله انتمى يوماً ما إلى هذا الصرح الذى وصل فيه إلى منصب وكيل الوزارة وجلس على مكتب أحد فروعه كمدير لأبحاث التزييف والتزوير وتخرجت على يديه أجيال وأجيال من خبراء هذا التخصص الدقيق، عندما قرأت هذه الاستقالة الصادمة التى لو كنا فى بلد محترم لاستقال بسببها وزير العدل ووزير الداخلية ومن قبلهما رئيس الجمهورية!، عندما قرأتها دار شريط الذكريات منذ الطفولة حتى رحيل والدى رحمة الله عليه، تذكرته هو وزملاءه محشورين فى عربية فيات 128 تنقلهم من أقصى صحراء المعادى حيث نقلت إليها المصلحة آنذاك بعد أن كانت فى شارع قصر العينى من جهة التحرير إلى بيتنا فى حى العجوزة، لم يتأفف أو يعترض واحد منهم على هذا العذاب اليومى، فقد كانوا يعتبرون أنفسهم فى واجب مقدس وكانوا يتحدثون عن مصلحة الطب الشرعى بمنتهى الاحترام والتبجيل، عرفت عن قرب الكثيرين من الأطباء الشرعيين وخبراء المعمل وبالطبع كل خبراء التزييف والتزوير، كلهم خبرات نادرة وطاقات جبارة تعمل تحت أقسى الظروف وقراراتهم النابعة من ضميرهم وعلمهم قرارات مصيرية تفصل ما بين حياة وموت، وسجن وحرية، شاهدت أبى وزملاءه يرفضون أن يكون المعمل الجنائى لوزارة الداخلية هو الحكم فى القضايا بل وكان المعمل الجنائى يتعلم منهم، شاهدت الطبيب الشرعى د.محمد نجيب رحمه الله والد زميلتنا الطبيبة مها نجيب وهو يعطى كل جهده ويسهر ويكابد بكل ضمير وحب برغم حالته الصحية المتدهورة والجلطة التى أصابته وخصمت من طاقته، شاهدت كم الإغراءات التى يتعرض لها الطبيب الشرعى والجهاز المعاون من معمل سموم وتزييف وتزوير لكى يخالف ضميره وهو يصارع ويرفض بكل إباء وشمم وكرامة، لمست الجهد الذى يفوق طاقة أى بشر فى التشريح والانتقال واتخاذ القرار لقاء ملاليم ولكن بإحساس أن لديه أمانة تنوء بحملها الجبال وقبساً نورانياً منحه الله لبصيرته يجعل كلاً منهم يتحمل كل هذا التعب والجهد والمشقة والعناء.
العبارات التى كتبها د.إحسان كميل جورجى فى استقالته عن مافيا تشويه الجثث والبصق على المسئولين وترهيبهم واللعب فى التقارير وأخونة الطب الشرعى، لا بد أن تتحول إلى كفن لكل جثث مسئولى هذا الوطن التى تعفنت من إدمان الكذب والفشل والغباء، كلمات تلك الاستقالة لا بد أن تكون رصاصة الرحمة لكل خيول هذه المؤسسة الخرقاء التى تحكم بالبركة وتخسر فى كل سباق لأنها جياد هزيلة متقرحة عرجاء، الحبر الذى كتبت به تلك الاستقالة هو دم شهداء يصرخون «دمنا ذهب هدراً لصالح من مرّ بالصدفة على جثثنا وصعد وتربع دهراًً»!.
يا بتوع الشرع هل سمعتم عن شىء اسمه الطب الشرعى.